مؤسسة سعاده للثقافة
 
تسجيلات المحاضرات العشر تسجيلات صوتية أخرى أغان وأناشيد سلسلة الإنسان الجديد ندوات ومحاضرات فيديوهات أخرى كتب دراسات النشاطات الإجتماعية ندوة الفكر الفومي مشاعل النهضة اللقاء السنوي مع سعادة خبرات القوميين نص ونقاش منوعات وطنية مؤتمرات الحلقات الإيذاعية مقابلات مقابلات نصية وثائق ديوان الشعر القومي مواد سمعية وبصرية معرض الصور
إبحث
 
دليل الموقع
 
 
 
 
 
 
 
من الزعيم إلى الدكتور مالك(1) «كتاب نقد وتوجيه» [10
 
 
 
الـنظام الـجديد،بيروت،الـمجلد 1، العدد 1، 1948/3/1
 

(ملاحظة: كان ظهور تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية في هذه البلاد حادثاً خطيراً جداً، لأنه أوجد، لأول مرة في تاريخ هذه الأمة الـحديث، قضية الفكر الفلسفي الأساسي، ووضع أمام العقل السوري قضايا الـحياة والوجود الأساسية الكبرى وقضايا الـحياة العملية. ولكن الغفلة عن قضايا الفكر والـحياة العظمى أبقت هذه الـحقيقة محجوبة عن الإدراك والـمعرفة. ولم تتمكن الـحركة القومية الاجتماعية، في بادىء عهدها، من الانصباب على قضايا الـحياة والكون والفن، التي تقدم تعاليمها نظرة واضحة إليها، نظراً للظروف السياسية العنيفة ــ ظروف العراك السياسي الشديد الأول ــ التي لازمتها في بدء عملها. مع ذلك فإن الـحركة القومية الاجتماعية، وهي الـحركة السلبية بطبيعتها التي لا تخضع لأمر مفعول، ولا تسلِّم لقوة أخرى أو فرض غريب، لم تقف جامدة تـجاه القضايا الكبرى ولم تتخلَّ عن إثبات نظرتها إلى الـحياة والكون والفن، بالفعل والقول، حتى في أشد الظروف حراجة.


في عرزال ناءٍ عن العمران، وفي كوخ حقير في بيروت قائم وراء دار الـمرحوم الأستاذ جرجس الـمقدسي في الشارع الـمسمى «جان دارك» في رأس بيروت، وفي طرقات حديقة الـجامعة الأميركانية، كان الزعيم يعلّم ويلقي دروسه على تلاميذ دعوته الأُول. وفي ذلك الاجتماع القومي الاجتماعي الأول الذي حضره وفود من فروع الـحركة القومية الاجتماعية، الـمنعقد في أول يونيو/حزيران 1935 ألقى الزعيم خطابه الـمنهاجي الأول (أنظر ج 2 ص 2) الذي هو أول شرح مثبت لـمبادىء الـحركة القومية الاجتماعية وأظهر فيه نواحي هامّة من النظرة القومية الاجتماعية. ثم تلا ذلك تأليف الكتاب الأول من مؤلف نشوء الأمـم في ربيع سنة 1936 في سجن الرمل. وتلاه كتابة شرح الـمبادىء في صيف سنة 1936 في سجن الرمل أيضاً. ثم أنشئت الندوة الثقافية في الـحركة القومية الاجتماعية في خريف سنة 1937 للأبحاث الثقافية ولِنَقْل الفكر من السطحيات ومسائل الإدراك العادي إلى الأساسيات وقضايا العقل العلمي والفلسفي.


في سنة 1937 ظهر في بيروت الدكتور شارل مالك (دكتور في الفلسفة) وارتبط بالـجامعة الأميركانية لتدريس الفلسفة في صفوف التمهيد العلمي، على أن يصير للفلسفة فرع تخصصي كامل لرتبة البكلوريا. واتصل الدكتور شارل مالك بالزعيم في أواخر سنة 1937 وأوائل سنة 1938. وفي أول مقابلة جرت بين الزعيم وبينه، في منزل الأمين السابق فخري معلوف، طرح على الزعيم أسئلة في صدد القضية القومية الاجتماعية، ذات طبيعة فلسفية. وبعد أن أجاب الزعيم على أسئلته أعلن الدكتور مالك أنه قد وجد نفسه أمام قضية واضحة كاملة لها كل الـجذور والفروع الفلسفية التي تـجعلها قضية صحيحة ذات نظرة واضحة. وقد تأسف جداً أفراد عائلة معلوف، لأنهم لم يفطنوا لوجوب تدوين الأسئلة التي طرحها الدكتور مالك وأجوبة الزعيم عليها.


على أثر تلك الـمقابلة نشأت بين الزعيم والدكتور مالك صداقة. واقترب الدكتور مالك بالفكر والروح من النهضة القومية الاجتماعية التي أوجدتها تعاليم سعاده واهتم كثيراً لها. ولـما أنشأ نادي الأبحاث الفلسفية في الـجامعة الأميركانية في أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938 صار الأمين السابق فخري معلوف وغيره من القوميين الاجتماعيين أكثر الـمقربين إليه، حتى أنه اعترف أكثر من مرة للأمين السابق معلوف أنه يرى في القوميين الاجتماعيين ميزة فكرية صحيحة، ويجد فيهم أقوى عناصر الفكر. ولـمّا قدم بيروت صديق أميركاني للدكتور مالك تخصص في الفلسفة وفي الأدب اهتم الدكتور مالك بجمعه إلى الزعيم، وقدم به في موعد معيّن ذات مساء إلى بيت معلوف حيث جرى بعد العشاء بحث فلسفي طويل كان الزعيم في جهة منه والدكتور الأميركاني (الذي لا يحضرنا اسمه الآن) والدكتور مالك في جهة أخرى.

واستمر البحث إلى ما بعد انتصاف الليل. وفي ختامه قال الـمفكر الأميركاني للزعيم: «إنني لم أجد في جميع من اجتمعت بهم وناقشتهم من قبل ما وجدته في نظراتك وحججك من قوة البيان ودقة النظر ومتانة الفكر والـحجة.» وصار الدكتور مالك يقول: «يتضح أنكم تأملتم ملياً تأملاً عميقاً في هذه القضايا الأساسية.»


كان موقف سعاده، في البحث الـمتقدم ذكره، قوله بضرورة الـمعرفة للحقيقة وعدم كفاية الوجود غير العاقل في ذاته لتكوين قيمة الـحقيقة، لأن الـحقيقة قيمة فكرية تـحصل في العقل أو الضمير بواسطة الـمعرفة فقط. وكان موقف الدكتور مالك والدكتور الأميركاني أنّ الـحقيقة تقوم بلا معرفة، كالافتراض أنّ جبلاً في القمر قد اندكّ ببركان أو زلزال أو ما شاكل فلا حاجة لرؤية ذلك ومعرفته ليكون قد حصل. وقد وجّه الدكتور مالك إلى الزعيم فعلاً هذا السؤال: إذا افترضنا أنّ زلزالاً حدث في القمر ودكّ جبلاً فهل يكون الـجبل اندكّ أو لا يكون؟» فأجاب الزعيم: «إنّ افتراض الـمجهول لا يكون حقيقة. فلا أستطيع القول إنّ جبلاً في مكان ما اندكّ أو لم يندكّ، وإنّ زلزالاً حدث، إلا بالـمعرفة الصحيحة فقط.» وواضح أنّ موقف سعاده هو موقف الفيلسوف الـمعتمد العقل والـمعرفة بينما موقف مناظريه كان موقف الـمعتمد الـحدس والتخمين الذي يجعل افتراض الـمجهول قاعدة للحكم.


مع ذلك فإن مثل الـمحادثة الـمتقدمة لم يباعد بين الزعيم والدكتور شارل مالك، بل بالعكس قرّب بينهما.


حوالى هذا الوقت ألقى الدكتور شارل مالك، في كلية البنات، الـجامعة الأميركانية، خطاباً بالإنكليزية عنوانه «معنى الفلسفة» وقد قدم نسخة منه هدية إلى الزعيم. فقرأه الزعيم وكتب إلى الدكتور مالك الكتاب الذي نثبت نصه في ما يلي. وهو كتاب يعدّ وثيقة فكرية هامّة تظهر اهتمام الزعيم بقضايا الفكر والتوجيه الفلسفي، وفيه من الـملاحظات والإرشادات الدقيقة ما يجعل قيمته عالية جداً. وإنّ من حسن التقادير أن تكون نسخة كتاب الزعيم إلى الدكتور مالك، التي نسخها الأمين السابق فخري معلوف، قد بقيت محفوظة مع أوراق حزبية فننشرها الآن حرصاً عليها من الضياع وإظهاراً لقيمة الكتاب:)


عزيزي الدكتور مالك،
بسرور شديد تسلمت هديتك الثمينة «معنى الفلسفة». وقد قطعت مطالعتي جمهورية أفلاطون ومجرى أعمالي التفكيرية لأقرأ هذا الـخطاب الـجديد الذي تستحق زبدته أن تكون قسماً من مجرى بعثنا القومي الفكري، أو ظاهرة من ظواهر هذا البعث. وإني أحسبه أحد أدلة يقظة الأمة السورية الفكرية.


لست أقصد القول إنّ «ما تعني الفلسفة» خطاب خطير إلى الدرجة القصوى في حد ذاته، بل إنّ خطورته قائمة في أنه يـمثل أحد اتـجاهات البعث القومي الفكري الفاعلة الـموجهة. وكونه شيئاً في بدء البعث أو في نقطة الابتداء من التوجيه عظيماً بقدر عظم القصد منه.


ولست آخذ عليك محاولتك العظيمة التوفيق بين الفلسفة والعقل العادي حين تتكلم عن الشرق الأدنى بـمعنى العالم العربي، وحين تـحاول أن تخاطب الشرق الأدنى كله كما لو كنت تخاطب وحدة ثقافية فكرية يـمكن أن تسمع خطابك وتتأثر به. فتنسى أنّ فاعلية الفكر هي التي تفرض نفسها واتـجاهها على النطاق الذي تشمله، كما امتد الفكر السوري قديـماً إلى الإغريق من غير أن يخاطبهم، وكما امتد الفكر الإغريقي إلى الأمـم الغربية وشرقي الـمتوسط من غير أن يتصور إقليماً معيّناً من أقاليم العالم ويخاطبه. وتنسى أنّ هذا الإقليم الكبير «الشرق الأدنى» ليس إلا شتاتاً من العمران ومن الاجتماع ومن الثقافة. فتخاطبه كما لو كان مجموعاً واحداً متجانساً متلاحماً فيذهب خطابك في دورة واسعة، فتقع بعض حباته على الصخر، وبعضها على الرمال الـمحرقة، وبعضها يذرّ على الأرض الصالـحة ذرّاً من غير فلح وزرع، فإذا نبت أعطى غلة قليلة.


ولست آخذ عليك هذه الـمحاولة العقيمة حين تلومنا لإهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية «الـخاصة» العربية والإسلامية، ولا تلومنا لإهمالنا فلسفتنا الكلاسيكية الـخاصة، السابقة الفلسفة العربية الإسلامية (الـمحمدية).


لا. لا آخذ عليك شيئاً من هذا لأني أوقن أنّ الفيلسوف الـمؤمن بحقيقته وحقيقة فلسفته لا يلبث أن يدرك عدم حاجته إلى وسائل العقل العادي ليشق الطريق لفلسفته، التي هي، في ذاتها، خروج على الـمعتاد. ولكني آخذ عليك هذه الـحملة العنيفة علينا من أجل ما حلَّ بأمتنا، في العصور الـمتأخرة من الظلم والطغيان، اللذين أفقداها حيويتها الفلسفية، حتى ابتذل فيها لفظ الفلسفة وأصبح من تعابير الإدراك العادي. والإدراك العادي ليس مصيبة حلّت بنا وحدنا، بل حقيقة، عندنا منها ما عند غيرنا، مع اعتبار فارق الـمرتبة الثقافية بيننا وبين غيرنا.


إنك، يا أخي، تـجور علينا كثيراً حين تستعمل هذه العبارة:


“I hardly think I am mistaken when I say that we do seem to have
a very strong antiphilosophical streek in our very being.”


وحين تقول إنه من الـمستحيل علينا أن نرتفع عن شهوات الـجسد إلى الأفكار والـحق والـحب والوجدان. فقد جرى في الـماضي، قبل نكباتنا العظيمة، أننا ارتفعنا فوق هذه الأمور الدانية إلى الـمرامي السامية من الفكر والـحق والـحب والوجدان. وها نحن نعود، وأنت في عداد حججنا، إلى الارتفاع من القاع الذي ألقتنا فيه النوازل التاريخية.


أرى جلياً أنك، بهذه الـحملة الشديدة على شعبنا، تريد أن ترفعه وأن تعيد إليه حقيقته التي أضاعها. ولكني أرى أنّ في تعابيرك أحكاماً عليه تصغّره في عين نفسه وتـجعله يفقد ثقته بحقيقته وبـمؤهلاته للنهوض. إنك تكاد تنتقم منه، بدلاً من أن تؤدبه وتعلمه.


ومع ذلك، فإني أرى كيف تعود فتدرك ذلك وتـحاول أن تنتشله وتريه اتـجاه النور. ولكني أعتقد أنه يكون قد خاف كثيراً من نفسه حتى لم تعد له بها ثقة ولم يعد يصلح لشيء سوى أن يكون قطعاً تـحرك بالسياط والعصيّ.


كم أحببت حملتك على الإدراك العادي والتفكير الـمعتاد الـمسيطرين في مجتمعنا. وكم أحببت اتـجاهك الصحيح نحو نور الـحقيقة والـجمال والـحب والعدل. وثق أنّ شعبنا كله، كل الشعب السوري، مؤهل للأخذ بها بهذا الاتـجاه بقيادة فلاسفته الذين يدركون حقيقة نفسيته التي كادت طبقات الـحوادث التاريخية تطفىء نورها.


إذا كان معنى الفلسفة الفلاسفة أنفسهم، كما تقول، فأشد حاجة شعبنا إلى هذا الـمعنى. إنّ الإدراك العادي سيظل إدراكاً عادياً، مهما تثقَّف وارتقى، والفلسفة تظل فلسفة.

والعالم لا يحتاج فقط إلى الفلسفة، بل يحتاج إلى الإدراك العادي أيضاً، لأنه حيث يوجد معطٍ يجب أن يكون هنالك متسلم يقبل.

 

وإنه من الـحسن أن يفكر الإدراك العادي بديـمكريطس وصكرات وأفلاطون وأرسطو وأغسطين وزينون ونيتشه. ولكني حين أفكر أنا في الفلسفة لا أفكر بهذه الأسماء، بل في الـحقائق الأساسية والـمرامي النفسية الأخيرة عينها التي فكّر فيها هؤلاء الفلاسفة.
 
وأعتقد أنك أنت أيضاً ستظل تـحدق، من خلال هذه الأسماء، في الـحقائق النفسية الأخيرة، حتى تغيب من أمام باصرتك هذه الأسماء، وتغوص على هذه الـحقائق والـمرامي في أعماق نفسك وتـحس تياراتها الـخفية الـجارية من تـحت الطبقات التاريخية الـمطبقة عليها، فتكتشف نفسك ــ نفسيتك الأصلية بكل جمالها وكل قوّتها ــ فتخرج فيلسوفاً لا ناقل فلسفة. وحينئذٍ تـجد الـحلقة الـمفقودة بين الفلسفة والإدراك العادي وتدرك الرابطة بين الفيلسوف وأمته، وبين حيوية أمته وقبول الشعوب القريبة منها. حينئذٍ لا تعود بك حاجة لـمناداة الشرق الأدنى أو العالم العربي لأن فلسفتك، فلسفة أمتك، تكون قد أصبحت فاعلة.
 
هذا هو فكري وشعوري في صدد خطابك الثمين، أقوله من أجل «نظام العقائد الأساسية» الضروري لتسديد حياة الأمة. واقبل احترامي الكلي وإخلاصي.
ولتحي سورية.
 
في 10 أبريل/نيسان 1938
الإمضاء: أنطون سعاده
 
(إنّ قيمة هذا الكتاب التوجيهية عظيمة جداً ويظهر أنها لم تبقَ بلا أثر في نفس المرسلة إليه).

 

 

 

(1) شارل مالك.

 
شارك هذه المقالة عبر:
 
 
 
تسجّل للإشتراك بأخبار الموقع
Close
 
 
الأسم الثلاثي
 
البريد الإلكتروني
 
 
 
 
 
@2024 Saadeh Cultural Foundation All Rights Reserved | Powered & Designed By Asmar Pro